مقطع من سيرة ذاتية

مقطع من سيرة ذاتية  - من كتاب " في الطفولة " لعبد المجيد بنجلون.


وجدت نفسي في المدرسة الجديدة أتلقى دروسي باللغة العربية واللغة الفرنسية، ولم يكن يخطر لي على بال أنه توجد مدرسة يمكن أن تشبع في نفسي البهجة مثل مدرستي هذه.

وكانت الدروس العربية مصدرا من مصادر الانشراح، وكانت الدروس الفرنسية مصدرا من مصادر هذا الانشراح أيضا، ولم يكن ذلك يرجع إلى أنني كنت متفوقا بين التلاميذ فإنه لا يوجد في هذه المدرسة ما يدعى بالتفوق. ولا يوجد بها تلميذ واحد يعرف ما قصد إليه أهله من إرساله إلى المدرسة.

كنت أخشى المدرسة، فإذا بي أجدها لا تفترق كثيرا عن السينما. وكان آخر ما يمكن أن يخطر ببالي أن تبعث الدروس التلاميذ على الاسترسال في الضحك، وربما على التصفيق.

كان مدرس الفرنسية من الإخوان الجزائريين، وكان لنا مدرسان عربيان، أحدهما يلقي علينا هذه المادة التي تدعى (العلم) وثانيهما يدربنا على حفظ كتاب الله الكريم. كان الثلاثة يثيرون فينا الضحك جميعا، ولكن اختلاف شخصياتهم كان يجعل لكل واحد منهم طابعا خاصا في إثارة الضحك والمرح بين التلاميذ.

مدرس اللغة الفرنسية رجل نحيل، يميل وجهه إلى العرض أكثر مما يميل إلى الطول، يلبس على رأسه العريض طربوشا شديد القصر، فكان يبدو لنا كما لو كنا نراه مجلوا في مرآة مشوهة.... قصير القامة، يرتدي برنسا دون جلباب، يحلو له دائما أن يرمي بجناحيه معا إلى الوراء، ويعقد عليهما يديه النحيلتين المشعرتين، وكان شعر ذقنه الحليق كثيفا يتطاول فيكاد يصل إلى عينه، وينحدر إلى مسافة بعيدة مع عنقه. شديد سواد شعر الحاجبين، وله عينان حادتان قلقتان، وأنف أفطس. وكان صوته قويا حادا، وبذلك كان مجرد النظر إليه - وهو يذرع الفصل - يغريني بأن أسترسل في الضحك دون أن أعرف لماذا، ولهذا كنت أحرص حرصا شديدا على ألا أنظر إليه.

كان يدخل الفصل في الصباح ويقف عند بابه وهو يمر بعينيه الضيقتين بين الكراسي يحصي من تخلف من التلاميذ، ثم يتمتم ببضع كلمات بين أسنانه في شبه حنق، ثم يتجه إلى المنصة التي كان يجلس عليها، حتى إذا ما استقر في مكانه ضرب إحدى كفيه بالأخرى وشرع يلقي هذه الحروف الفرنسية المعدودة بشفتين ممطوطتين وصوت حاد. وكان وجهه يعبر تعبيرا غريبا عما يثيره الصياح بهذه الحروف من معان في نفسه.

ولنفرض أن تلميذا متأخرا دخل الفصل وهو يلقي الدروس، هل تعرفون ماذا كان يصنع؟ كان يتوقف عن الصياح بحروف العلة، ويشرق وجهه إشراقا غريبا كمن عثر على ضالة، كل ذلك وهو يشد يديه خلف ظهره، ثم ينظر إلى زاوية السقف، ويسير كأنه غافل نحو التلميذ المتأخر، فإذا ما قاربه دار حوله وهو ينظر إلى السقف. كل ذلك والتلاميذ يتطلعون إلى ما سوف يحدث. وفجأة يصيح بأعلى صوته صيحة ترتج لها حيطان الفصل: (أين تأخرت أيها الخنزير؟).

ثم يخفض صوته وينحني على التلميذ وهو يبتسم ويقول: لعلك تأخرت في أكل (الكفتة والفلوس)؟ أليس كذلك يا عزيزي؟

ويرتفع صوته بالصياح مرة أخرى: نعم كنت تأكل الكفتة والفلوس!

حتى إذا ما انتهى هذا الهمس والصياح والتمثيل ضرب التلميذ ضربا مبرحا وأرسله إلى مجلسه في الفصل، ثم يعود ويعتلي منصته، ويضرب يده فوق صدره المنتفخ، وينظر إلى التلاميذ يمينا وشمالاً بعينين جاحظتين كأنه يقلد نابليون بونابارت.

ولا يكاد يعود إلى الصياح بالحروف الفرنسية حتى ينصرف عنها مرة أخرى وتبرق عيناه ويقفز من المنصة ويتجه إلى مؤخرة الفصل على أطراف أصابعه ليضبط تلميذا متلبسا بجريمة الانصراف عن الدروس، فيمسكه من أذنه ويسحبه هكذا إلى مكان بارز أمام التلاميذ. كل ذلك وهو يسير على أطراف أصابعه، ويشير بالصمت والأطفال يكتمون ضحكاتهم لكي يحافظوا على ما يشير به.

ويوقفه أمام التلاميذ وهو يصيح: ها أنت ذا! ثم يهمس مبتسما: لماذا كنت منصرفا عن الدرس؟ وماذا كنت تصنع؟ لقد عرفت الآن ماذا كنت تصنع. أصابك العطش فانصرفت عن الدرس إلى شرب الحبر من الدواة، أو تشرب الحبر أيها القذر؟

ويضج التلاميذ بالضحك، بينما ينصرف مدرس اللغة الفرنسية إلى تلميذه الغافل.

وهكذا كان يقضي ساعات طويلة من النهار يصيح قليلاً بالحروف والأرقام، وينصرف كثيرًا إلى تمثيل عشرات من هذه الأدوار التي كانت بارعة في نظر التلاميذ، لأنها كانت تنقذهم من مشقة الاستماع إلى الصياح.

كان هذا المدرس يستأثر بمعظم الدروس في الصباح وبعد الظهر. أما المدرسان الآخران فكانت تخصص لهما أوقات قصيرة كل يوم لا تتعدى الساعة.

وأولهما مدرس مادة العلم. وهي مادة كثيرة الألغاز متشعبة، اصطلح التلاميذ دون اتفاق على أنها مستحيلة الفهم. ولذلك يئسوا منها وانصرفوا عنها إلى العبث العلني أمام مدرسها دون أن يحفلوا بضربه وصياحه، انصرفوا عنه متحدِّين له، غير حافلين بما ينجم عن هذا الانصراف لأنه لم تكن لهم عنه حيلة. كان رجلاً بدينا قصير القامة يرتدي ثيابا فضفاضة، وقد استقرت على رأسه عمامة واسعة الأرجاء، وحفت بوجهه لحية كبيرة بها بضع شعرات بيضاء. أما ذقنه فكان دائم البلل لكثرة صياحه.... كان يضرب براحته على المنضدة وهو يرطن بألغازه، ويضرب بها على وجوه التلاميذ وهم لاهون بقوة شديدة.

كان يضرب ويرفس ويصيح بكل ما فيه من قوة، وكان بصره يلتهب ووجهه يحمر وتنتفخ أوداجه وهو يصيح ويرسل الشتائم بصوت عال جدا، واضح جدا، مزعج جدا حتى إنه ليخيل إليك من كثرة جلبته أنه انقلب إلى عشرين من المدرسين.

ويعييه الصياح والضرب، وتعييه الحيلة لأجل أن ينبه التلاميذ - دون جدوى - إلى أنه موجود في الفصل، فيتهالك على وجهه فوق المنضدة حتى يخيل إليك أنه يبكي، فيقبل عليه التلاميذ يربتون على كتفه ويواسونه، فيطير صوابه ويقذف بالعمامة في الهواء ويرفع يديه ويستبد به الصياح استبدادا مخيفا فينطلق إلى الباب لينادي مدير المدرسة نداءات متوالية مدوية.

ويستمر في صياحه مدة تطول أو تقصر، والتلاميذ مشدوهون قد انصرفوا عن الضحك والعبث لهول الموقف. وأخيرا يقبل المدير، وهو شيخ جزائري وئيد الخطى، هادئ الأعصاب، لا تفارق الابتسامة شفتيه الذابلتين.

ولا يكاد المدير الشيخ يقترب من باب الفصل حتى يصيح به المدرس بأعلى صوته، أن تعال أنقذني من تلاميذك، إنهم يدفعون بي إلى الجنون، إن مدرستك هذه مباءة للشياطين والمردة من أبناء البشر. أيها المدير، أنقذني، أنقذني!

وبينما كان مدرس "العلم" يرسل هذه الصيحات في وجه المدير البشوش، كان هذا ينظر إليه في هدوء عجيب. وأخيرا يسأله:

- ألست أنت الأستاذ في الفصل؟

فيجيب ثائراً: نعم أنا الاستاذ، ولكن الحيلة أعيتني مع هؤلاء المردة، أقبل، أقبل وأنقذني منهم!

فيقول المدير: هل أناديك في دروسي لتنقذني منهم؟ هل أستغيث بك؟ أنت المدرس فدبر شؤون دروسك بنفسك، كما أدبر أنا شؤون دروسي بنفسي.

قال ذلك وهو ينصرف بهدوء بنفس الخطى الوئيدة التي أقبل بها. وهنا يصيح مدرس مادة "العلم" فيرفع عصاه يضرب بها شمالاً ويمينا ويصيح ويلعن. ثم يلف نفسه لفا عصبيّا في برنسه ويغادر الفصل وهو يتعثر من شدة الاهتياج.

بعد ذلك يأتي دور المدرس الثالث وهو الذي يمرن التلاميذ على حفظ الآيات القرآنية. رجل ربع القامة في عنفوان القوة والحيوية، جميل المحيا، كث اللحية، ذو عينين نفاذتين. وكان إلى جانب ذلك هادئا يحيط نفسه بهالة من الوقار والهيبة. تقابله في عرض الشارع فيبدو جم التواضع حيي الطرف، حتى إذا عدت فرأيته في المدرسة خيل إليك أنه شخص آخر. كان فيها دائم الوعيد والتهديد، يلوح بيده القوية في الهواء فيشيع الرعب الشديد في قلوب التلاميذ. وكانوا جميعا يخشونه دون استثناء، وكانت نظرة واحدة منه إلى أي تلميذ كافية لإرجاعه في الحال إلى سواء السبيل.

خصصت لهذا الرجل حجرة يجعل منها كتّابا يختلف إليه الأطفال قبل موعد الدروس في الصباح، وبعد موعدها في المساء، وكان التلاميذ يخشونه، فينزعون إلى الهروب منه. ولم يكن هذا الهروب يقتضي كبير عناء، إذ يستطيعون في الصباح أن يتأخروا إلى موعد الدروس، وفي المساء يستطيعون الخروج من الباب الخلفي، دون أن يحاسبهم أحد على ذلك. بل كان كل تلميذ يأتي من والده بطلب الإعفاء من الاختلاف إلى الكتاب يتمتع بهذا الامتياز رسميا، وفي استطاعته بعد ذلك أن يمر به ويحييه وينصرف دون أن يخشى شيئا، لأن قانون المدرسة كان يحميه من الانكباب على حفظ ما أنزل الله على عبده من آيات بينات.
وويل للذين يهربون دون أن يقدموا للمدرسة طلبا ممهورا بتوقيع ولاة أمورهم. ولا يأتيهم هذا الويل من قبل المدرسة أو مديرها، وإنما يأتيهم من قبل صاحبنا هذا القوي العنيف. فقد كان يعلم أن مستقبل هذه الحجرة التي خصصت له رهين بالإقبال عليها، فإذا تسامح في تتبع الهاربين، فسوف يأتي اليوم الذي تقرر فيه المدرسة الاستغناء عنها، ولذلك فقد جرد عزيمته تجريدا مخيفا، وبدأ يترصد التلاميذ، ويتربص بهم، ويعترض طريقهم. وقد انصرف إلى دراسة حيلهم في الهرب انصرافا دقيقا، حتى أتقنها جميعا، وبات في استطاعته أن يحبطها جميعا.

وأنا مدين لهذا الرجل، لأنه أول من علمني القراءة والكتابة في صورتها البسيطة الساذجة. وأذكر أنني كنت أخشاه بالرغم من أنه لم يمسني منه سوء. فقد نشأ بيني وبينه نوع من الاحترام عرفت فيما بعد أنه كان نتيجة لمقابلة تمت بينه وبين والدي دون أن أعلم عنها شيئا.

كانت حجرته تضم مزيجا عجيبا من التلاميذ، فمنهم الصغير الذي يتعلم القراءة والكتابة في المرحلة الأولى، ومنهم المتوسطون الذين بدأوا يقطعون أشواطا لا بأس بها في حفظ السور والآيات، ومنهم الكبار الذين أتقنوا حفظ كتاب الله الكريم لكثرة ما مروا به طردا وعكسا. فلم تكن هذه الحجرة مخصصة لسنة دون أخرى، بل كانت مخصصة لتلاميذ الفصول كلها.

كان من بين هؤلاء الصغار فتى ناهز العشرين من عمره، اعتاد أن يسرد كل يوم حزبا من كتاب الله المبين والمدرس يستمع إليه، وكان فتى قويا خشنا تكفي نظرة واحدة إليه لمعرفة أنه على استعداد لخوض المكاره، وكان صاحبنا يحترمه احتراما شديدا، ولا يصيح به ولا يستحثه، وكان يعطيه حرية واسعة النطاق، بحيث كان في استطاعته أن يأتي وينصرف في المواعيد التي يختارها، وكان يحييه كلما أقبل وكلما هم بالانصراف، وهذا ما لم يكن يتمتع به تلميذ غيره.

وذات يوم حصل ما عكر العلاقات بين الأستاذ والتلميذ، فلم يكد الفتى يقبل حتى أعرض عنه الأستاذ إعراضا لفت نظر الصغار جميعا، فكانوا ينقلون نظراتهم بين الشخصين في حيرة واندهاش، كما ينقل النظر بين ندين نشأ بينهما غضب مفاجئ. وكان الأستاذ من آن لآخر يرميه بنظرات صاعقة تضج بالاستخفاف والازدراء، ثم تطور الأمر من هذه النظرات إلى الكلام، إذ وجه إليه الأستاذ بضع كلمات عرف منها أن الفتى أتى أمرا مشينا، فرد عليه هذا بكلام فهم منه أنه لا يعبأ باهتمام الأستاذ. عندئذ ساد الحجرة صمت رهيب، فقد تطاير الشرر من عيني صاحبنا وهو يضرب بعصا في الهواء، ويطلب من التلميذ الذي ناهز العشرين من العمر أن يدخل هذه الحجرة المجاورة الخالية، وحاول التلميذ أن يهرب ولكن الأستاذ اعترض سبيله، ودفعه داخل الحجرة، فحاول أن يقاوم ولكنه استحيا. ودخل الأستاذ في أثره وهو يتميز من الغيظ، ثم انقض عليه في جنون، فلم يلق مقاومة تذكر في أول الأمر.

كل ذلك ونحن ننظر مشدوهين إلى هذا الحادث الرائع الذي لم يخطر لنا على بال أن الدهر سوف يسمح لنا بمشاهدته. فقد استيقظت الهمة في صدر التلميذ عقب الإهانات المتوالية التي وجهت إليه، فاشتبك مع الرجل في صراع مخيف. فقفزت قلوبنا الصغيرة إلى حناجرنا ونحن نتتبع هذه الضربات المتتالية التي كانا يتبادلانها. ثم سقطا معا إلى الأرض، وزاد اشتباكهما، وغالب الفتى القوي أستاذه ما استطاع إلى المغالبة سبيلاً. وأخيرا تمكن هذا من أن يجثم على صدره، ويكيل له ضربات قاتلة. كل ذلك والجدران والأبواب تهتز كما لو كانا ثورين يتنازلان.

ازدادت مخاوفي بعد هذه الحادثة المروعة التي أثارت قلقي، وبدأ يخيل إليّ أن نظر صاحبنا هذا الطاغية إليّ قد اعتراه بعض التغيير، ثم خيل إليّ أن العلاقات بيني وبينه أخذت تسعى إلى التوتر، وأخيرا بدا لي من اليقين أنه يتربص بي حتى إذا أقبلت مع جماعة من التلاميذ في وقت متأخر، أمر بأن ترفع أرجلنا للضرب. وكنا سبعة، فلما رُفعت رجلا التلميذ السادس أيقنت أن دوري آت لا ريب فيه. فأجمعت أمري مرة واحدة، واتجهت ببصري إلى الباب، وفي لمح البصر كنت أعدو في الطريق إلى باب المدرسة الخارجي كأنني أسابق عاصفة هوجاء، وتبعني اثنان أو ثلاثة من التلاميذ بأمر من الأستاذ لاعتقالي، ولكن هيهات! فقد كان العدو الشيء الوحيد الذي كنت أمتاز به بين أقراني الصغار. ومنذ ذلك اليوم ألغيت هاتين الساعتين اللتين كان يقتطعهما من وقتي أستاذ القرآن. وقد حاول أن يعترض طريقي ويطاردني ولكنه لم يتمكن من القبص عليّ أبدا. وقد انقطعت العلاقة بيني وبينه منذ ذلك الحين، دون أن أحتاج إلى تقديم موافقة والدي على ذلك، فقد أخذت على عاتقي أن أتخلص منه من غير أن يعلم والدي، لأنني كنت أعرف أن آخر ما كان يمكن أن يقبله هو مساعدتي على الهرب من حفظ تنزيل العزيز العليم.

ليست هناك تعليقات :

مدونة ابراهيم الخضراوي - مدونة تعليمية تربوية ثقافية ترفيهية | اتصل بنا | فيسبوك |* تصميم : كن مدون